منتدي ابناء جدو
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


ملــــــتقي أبناء جــــدو بنيالا
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 مولد النسيان

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابوالسمؤال
Admin
ابوالسمؤال


المساهمات : 53
تاريخ التسجيل : 24/01/2013
العمر : 34
الموقع : مدير عــــام

مولد النسيان Empty
مُساهمةموضوع: مولد النسيان   مولد النسيان Icon_minitime1الخميس يناير 31, 2013 4:50 pm



مولد النسيان

الفاتحة
[نحن نساق بالطبيعة إلى الموت ونساق بالعقل إلى الحياة.]
[هناك، في ملكوت الليل الكلي الواسع الأرجاء، حيث لا يصيب الإنسان من العلم إلا وحيدا أوحد، هو النسيان الرباني الخالد القديم]
"شوبنهاور"
توجيه الحديث
اجلسي إليَّ يا إدراك الكل أحدثك
اجلسي إليَّ جلستك يوم قمنا على رأس الجبل فوق بحيرة " السنديان " واتسعنا بما كان تحتنا من اطمئنان الأرض وتهاويها بين الجبال، يوم تقت إليك فأقبلت علي وقلت: " هذه الآفاق تناءت.... وإنى لأجد كالظلمة أو النور القاسي في طوايا بصرك يغشاه.. فحدثني عن النسيان ".
ولم أحدثك ولم تزيديني سؤالا، وقد كرهنا أن يمس طهارتنا الكلام. ثم عطفت إليك من أقاصي النفس وهمست إليك بحديث لم تسمعيه ولكنك أدركت معناه وانطلقت بعيدا تطلبين مداه. صوتا يتردّد في عميق الآبار...
اجلسي أحدثك حديثا كان في نسي من الزمن قديم بعيد كالجفاء. أو كان منك ومني في غيب الزمان الآتي يغرينا فنندفع إليه كهاويات الحصى.
كالمغلوب لا يدرى آثقل نفسه أم أثقلته فهوى...

الفصل الأول

قامت واهنة الحركة..وجاءت بفاكهة فألقتها على المائدة. ثم جلست وقالت:
يا مدين إنه قد ذهب صبري وعيل تجلدي. أفلا نخرج من هذه البلاد؟
وأُسقط في نفسها فتنهدت وقالت:
تجاوز طاقتي هذا الحر يثقل كالندم، وهذا العفن كالجثث البوالي، وهذه الغدران. وتعلق النتن بالهواء ودخل الحلق مع الأنفاس. وكرهت عيني أن لا تصيب إلا جثث الموتى، ونفسي أن لا يقع لها إلا معاني الموت والفناء، وبرمت بهذه الأرض الندية المسترخية اللخناء.
قال:
إنه قد مات لي اليوم بالمارستان ميت.
قالت:
ترى لو أسلمنا للموت أمره وللأموات، وطلبنا لأنفسنا الحياة؟
فألقى إليها ببصر ناحل كئيب وقال:
ومتى سهونا يا ليلى عن طلب الحياة؟
انظري حسنك وسلامة جسمك والمائدة بين يديك. إنا لا نفتأ نطلب الحياة ونطعم ونشرب فنهيئ للدود الطعام.
ثم أخذ موزة وقشرها ونظر فقال:
وسيأتي يوم يسترخي اللحم ويبيض كالموز ويطيب للدود ويكون الختام.
قالت:
وتريد أن تقتل الموت؟
قال:
نعم يا ليلى: ومع هذا أريد أن أقتل الموت لأن الأبد واجب والحياة..
وقامت ليلى حيرة وتيها. فوقفت في شرفة الغرفة، وحامت ببصرها في ظلام الليل فوق أجمة ذات حلفاء وقصب وماء.. واكتفى مدين من الطعام فقام ووقف في الشرفة وقوف ليلى يسأل الظلام. فكأنما قد انصرفا إلى الغيب.
وكانت ساعة أو بعض ساعة.
***

ثم برز من السكون كرفرفة الجناح حركة وصوت
قال مدين:
إنها ريح جنوب.
وقالت ليلى:
وإنها لوهجانة الزفيف.
وتصاعدت فيها الريح والحر فقالت:
هذا الجنون قد عاود الكون. والله ما رأيت كهذه الأرض أنثى تضبع وتعوي من قلة الصبر. أفليس لها من ذكر فحل يستطيع الضراب؟
ولوت وكأنما انهالت قواها، فاستلقت على فراش. وقام مدين وحده بالشرفة. وهب من الريح نفس شديد خنق السراج. ودفق الظلام فملأ الغرفة حتى ثقلت كالشقاء.
وقال مدين:
اسمعي يا ليلى دوي الجنوب كالثعابين تنساب.. وإنها لحماسة المغير أو غيظ شديد.
وذهبت بليلى نوبة حمى، فهي لا ينفذ إلى نفسها من صوت الريح إلا كعدو الخيل تحت الأرض تحمل على خيل. فكأن الريح تهز أصول الأشجار هزا ولا تصيب الفروع.
وقال مدين:
هذه الذكرى مقبلة إليَّ. أراها تدفع الجبال لتبرز من بطن الأرض، وتصارع الزمان. وستخرج بعد حين، من أرض بعيدة كثيرة الغيوم كثيرة الأطياف، وتتخلص من الوحل والصمغ والغراء، وترتفع فتتبدد، فكأنها زبد على الريح.
ورف على مدين كالنفخة أو الخاطر الرائع فقال:
أشفة الريح؟
وقال:
لا، بل أنت مَجَرّ أبيض كمجرة السماء.
وتجمعت ذكراه فسمع هاتفة تقول:
أنا ذكراك يا مدين.
وقام مدين في الشرفة إلى ذكراه تحدثه ويحدثها، وقد أخذت منه الحمى فهذى.
قال:
لقد جئت وكنت مؤمنا بقدومك. إنك من الصادقين.
قالت:
بل أنا يا مدين من الكاذبين..
وقالت:
... استطعت الكذب فكذبت. وكذبتك وكذبت نفسي، وآمنت بالباطل في حياتي. وكنت أقول: إني مؤمنة بالصورة، مؤمنة بهندسة السواري والتماثيل، كافرة بمادة السارية والتمثال. فتقول: إني مؤمن بالمادة يا أسماء. وتقول: إنه ليس من الحق إلا محض المادة، لم تعمل فيه هندسة ولم يهذبه شكل. لا صورة ولا زنة. المادة المحضة.
قال:
وكنا يا أسماء نقول كثيرا غيره.
قالت:
وكنت أنظر إليك فأراك تبتسم في وجه العم.
قال:
وكنت تجعلين نعومة يديك على فمي، فإذا كامل جسدك عار، يرف عليَّ نفسا مارا أو نفح ريحان لطيفا، كالمني تسري إلى القلب. إلا تقتربين فتجعلى يديك على فمي، فأجد لين أيام كنت معي في الحياة؟
قالت:
إني ميتة يا مدين. قد ذهبت الخفة من يدي واللين. وانتفت عني الصفات.
واشتد به التوق إليها فأغرى وقال:
ألا تقتربين أحدثك عن مستقبلنا الماضي؟
قالت:
حدثني عن الأمل مات بموت المادة وأخلف باطل الروح.
قال:
لقد كان هذا منبع خوفنا وكانت علتنا هذه المشكلات. وكانت أفراحنا تنكسر بين المادة والصورة كالجوزة في مكسر الجوز. ونهزل فنقول:
إن الفرح كالفأرة، فنحن نفتش عن فأرة الفرح بين الأرض وعدل، وقد فطسها العدل على الأرض. ولكنّا اليوم آمنا واسترحنا يا أسماء. فقد ذهب الإشكال وذهب الخوف، وقتلت المادة وقتلت الصورة والروح. تمثال ولا حركة ولا خطوط، ومادة ولا شكل ولا زنة.
وسكتتْ قليلا كأنما انصرفت إلى الماضي، ثم قالت:
وكنا نجلس تحت شجرة التفاح، فآخذ تفاحة وأقول: أهديك حمرة خدها محضة بلا لحم.. فتعض لحمها وتقول: أفضّل اللحم...
وظللت أعتقد أنه لا يؤكل من التفاحة إلا شكلها وألوانها، ولا يؤكل لها دم ولا لحم، وأنه ليس في الحياة غير الصور والخطوط والألوان، حتى أماتني اعتقادي.
قال:
وكانت لنا أحلام، وكان لنا في أحلامنا بيت وطفل وسرقناهما للمستقبل البخيل وأخفيناهما عن الزمن وخلطناهما حتى أصبحا صديقين. وكانا يولدان في أنفسنا مطلع الفجر، فيبقي الفجر في أنفسنا طول النهار. ونمتزج فأضل فيك وتضلين في وتنتفي الفروق. فالبيت والولد والفجر وأنت وأنا كلها فينا بنا.
قالت:
وقد ذهب كل شيء. ولم يبق لي إلا هذه الأحلام لم تدرَك. وقد شكرتك من يوم موتي يا مدين على ما لم نصب من الأماني، على وحيد ما بقي لي من نعمة الحياة على مفتوح الآمال.
قال:
ماذا صنعت من يوم دخلت الموت؟
قالت:
ما يصنع جميع الأموات: بقيت في الأرض وبكيت حتى كثر بكائي، وأعولْتُ حتى مللت عويلي ومزقت روحي أشلاء. وجاءني الشيطان بدولاب ومجانيق وآلات، فحملت بها على أجساد الموتى قبل الدفن. لا تزال فيها حرارة الحياة، أريد أن أتلبس بها لحظة من الدهر، فلم أجد فيها منفذا ولا شقّا. وغلبني كمال المادة، فأسلمت وآمنت.
قال:
تحدثني نفسي أحيانا أن السماء قد أثقلتها الأرواح، فهي تداعى إلى السقوط، وأن زنة الأرض وثقلها توفر الحياة، وأن الإنسان عليها كالظمآن يسبح في نهر من الكوثر وفمه مختوم.
قالت:
وأنت يا مدين ماذا صنعت بعدي؟
قال:
صارعت الموت وناصرت الحياة.
قالت:
احذر. إنه من صارع الموت فقد مات.
وهبَّ نفس من الريح فخرج الطيف.
وصاح مدين وقد بلغت به الحمى: لا تذهبي يا أسماء.
وجعل المطر يعزف فيه فيلطم الوجه، والبرد يزلزل العظام، فيهتز له مدين كالنخل في الذاريات. وكان أقصى النوبة وأشدها، فاصطكت أعضاؤه فلقي الأرض وأهوى.
***

ورأته ليلى، فتحاملت على نفسها، وقامت إليه تريد أن تدخله الغرفة. وخطت إليه خطوات، فهي على رأسه إذ خارت قوتها، فصاحت وسقطت على مدين:
يا هند، يا هند..
وخرجت الجارية هند فاحتملتهما إلى الفراش.
الفصل الثاني

ودامت بهما الحمى أياما. وجاءهما ممرض المارستان، فتداوت ليلى، وأبي مدين أن يتداوى.
وصبر ثلاثا، ثم قال: شيط كالقيح فيَّ لا بد أن ألفظه. ثم تحامل فخرج من البيت. وذهب هائما، فدخل الأجمة، وسلك بين القصب والحلفاء.
وأرسلت ليلى هندا على أثره لتسمع وترى.
فذهبت وعادت فقالت:
لا بأس عليه يا ليلى. إلا أنه دواء من غريب الدواء.
فقالت ليلى:
تعنين يا هند؟ إني لأخشى.
إنه ذهب إلى بيت "رنجهاد" الساحرة، يطلب إلى السحْر الشفاء. دخل فاستلقى. ودخلت فإذا هو كخلق الثياب طريح ملقى، وعلى رأسه رنجهاد كفلق الصبح يفضّ ليلة ليلاء، تحدثه فتذهب منه صورة وتأتى صورة أخرى، فهو كبعض ليالى الصيف البيضاء، الساكنة الحر والهواء، يسمع فيها نبات الذرة يتدافع نموا، متغير الصور والحال، تحدثه رنجهاد فتزيد الصحة وتنمو النفس والحياة، وتعود له عيناه. وكانت عليه كالآخذ من عدل بر، تجيل يدها فوقه كالزارع يزرع الحياة.
قالت:
رنجهاد؟ أهذه التي وراء الأجمة في الغاب؟
قالت:
هذه التي تُحيي وتميت.
قالت:
وأين موقع بيتها من الغاب؟
قالت:
على عين " سَلْهَوَى "...
وذكرت ليلى أن سلهوى عين حر، ماؤها حميم تسبح فيه ثعابين، ويلفظها فم من صخر، متساقط الأسنان كثير الهذر، ويسكت أحياناً وقد غص بالظلام، وعليها بخار لا يجرى إلا وجهاً واحداً لا ترده ريح ولا تلويه.
وقالت هند:
ورنجهاد على العين سادنة خادمة. منها ومن بخارها وما ملكت من قدرة سلهوى، جاء سر سحرها وغلبها الموت وإحياؤها الموتى.
قالت ليلى:
ماء العين؟ وهل رأيته قط؟ وهل أصابت منه يداك؟
قالت هند:
أعوذ بسلهوى. ومن ذا يقرب العين يا ليلى؟ تولج اليد في الماء فتذوب وتصعد صورة في الأبخرة إلى الهواء، وتضحك منك هزؤا، وتسمع العين غيضا.
قالت:
وهذا النبات الذي يتحدث عنه الناس؟
قالت:
نبات سلهوى، نبات النسيان والسلوى. وبه سمّى الناس العين باسمها. يقولون إنه كغاية الكمال، لم ير له أحد قط زيادة ولا نقصا، ولا يغيره شيء ولا تحركه ريح، ورقه مجدول، وعليه خضرة كالغبار الندي، وعروقه كالإبر تخز قلب الصخرة وخزا... وهو هناك إلى الأبد: لم يمسه السابقون ولن يمسه اللاحقون، لأنه لا يدرك إلا من العين، ومن ولج العين خرج منها بخاراً يضحك هزؤاً.
قالت:
إني لأخشى يا هند على مدين.
قالت:
وأنا مثلك يا ليلى. أخاف أن لا يكون له عندها إلا كامن الحقد. فقد عاث في دينها، وأفسد الناس عليها، وصرفهم إلى مارستانه عن دوائها سحرها.
وكأنما عاود ليلى ضائع إيمان مضى.
فشخصت ثم قالت:
نعم... لقد كان في نفسه حين جئنا هذا البلد شعلة الأنبياء. يريد محق الأمراض وإحياء الموتى... وأقمنا المارستان ونشرنا على الناس الدواء (...)...
قالت هند:
وقطعتم رنجهاد عن الناس، وكانوا قبل لا يعلمون مداوياً غيرها. وكانت تصيب العلة الواحد منا فيذهب على حافة الغاب ويدعو؟ فتخرج رنجهاد فتنظر إليه فتقول. أذهب يا هذا. فيعلم أنه مرض موته، فيعود إلى بيته (...) ويبدأ المأتم والبكاء، وتقام الجنازة والمريض بين الأحياء.
قالت ليلى:
وإنى لأذكر يوم نزلنا، وأنّا دخلنا بلداً جميع أهله في جنازة، والميت حي قائم على المحمل يشهد جنازته ويترقب أجله. وأني قلت: إنهم مصابون... أو...
قالت هند:
وإنما كان إيماناً بقضاء رنجهاد.
قالت ليلى:
أفكانت لا تقضي إلا بالموت؟
قالت هند:
لا يا ليلى. فقد يأتيها بعض المرضى، ويدعوها فتخرج فتقول: إني أرى لك معدن الحياة.
وتقول: أتريد الأبد؟. فيقول: إنه لثقل ثقيل. فأنا أكتفي بحياة كحياة آبائي مدى. فتجيل يدها فوقه كالزارع، فتعيد له الصحة وتنشئ الحياة.
قالت ليلى:
ولم يجرؤ أحد قط فسألها الخلود؟
قالت هند:
لا يا ليلى، إنه عندنا من نقمة الآلهة وأليم الشقاء.
وأمسكت هند. وأمسكت ليلى، وقد ذهبت بها خواطر شتى. وجاء الليل وتجرعت ليلى الحيرة بالظلام. وقامت هند توقد السراج. فكرهت ليلى أن تتسع الغرفة وهي على وحدتها ترقب أنساً فلا يأتيها، فقالت:
دعي يا هند.. اتركي الظلمات عليّ غطاء.
وصبرتْ حتى ذهب هزيع من الليل. ثم ضمّتها الوحدة إلى نفسها، وألحّ الليل على عينها، وألمّ بها نومها...
الفصل الثالث

وطلع الفجر فطلع مدين على ليلى. فقام عند رأسها وقال:
هذا حُسنك لا يزال عليك، أرى فيه سناء الحياة يا ليلى.
قالت:
كذا نحن. ما تلاقينا بعد فراق إلا ترددتْ فينا الأفراح كالقوس رنينا.
قال:
أراك فأقول إنه لا يموت إلا من حرموا حسن الحياة، فهم لا يحسنون إلا في جلال الموت. وحُسنك أرضيٌّ يا ليلى.
قالت:
اجعل وجهك يا مدين على وجهي.
وانحنى فعطف على وجهها، وملأها بعينيه، وجالت نفسه فيها، وانتشر النور واضحا. وهمّت أن تتكلم فقال:
أمسكي لا تدنسي الحب بالكلام. صونيه من الطين والظلام.
قالت:
هذا الصباح.
قال:
لا يا ليلى. إنا لا نزال في الليل... ولن نزال، مادمنا نرقع... ما دام الطب والأطباء يرقعون الحياة.
قالت:
ما قالت رنجهاد؟
قال:
رنجهاد لا تقول. وإنما تسمعك همس الغاب وسر الأشجار والمياه، وتصب فيك الغناء صبا، ويصغر عندك الكلام، ويذل المعنى.. كالواضع أذنه على الصخرة ليسمع الحياة مائجة فيها، يبعد عنه سخف البشر وينسى. رنجهاد لا يكون كلامها إلا وحيا همسا.
قالت:
أَوَتداوي بالهمس مرضاها؟
قال:
بل تداويهم بالنسيان يا ليلى. وقد علمتْني اليوم...
ووجمت ليلى، وانصرف مدين عنها إلى غريب الحديث. قال:
علمتني السكون وأن الحركة الدائمة جنون. وإنها لامرأة غريبة الشأن يا ليلى. دائمة السكون ولو طارت، ولو مشت لا حراك لها. ولا يدرك لقرارها نهاية، وفيها احتقار للناس غاية، وفيها أنفاس الأبدية. إذا تكلمت انتفى الزمان والفواصل والصورة، وجاءت كلماتها لا سابقة ولا لاحقة، واصطفت بناء بديعاً تحضرك معاً جميع أحجاره دفعة واحدة، كالفرح الكامل أو ملْء الحياة... أو كالحب يترفع إلى الذروة، أو كقمم الثلج في الجبال تصيرك مثل الزجاج شفافاً...
وسكت مدين. وانصرفت ليلى إلى عميق خواطرها، كالغائصة على نفسها. فاضطجع مدين إليها، كما يقع للنفس بعد القسوة اللين.
فقالت:
ما كره إليك دواء مارستانك؟ ما ذهب بك عني. من عالم الوجود. الراضي إلى الرفض والنفي؟
وكان أول نشأة العبرة بعينيها.
قال:
لا رفضاً ولا نفياً. إنما هو أني كرهت أن... يرقع الممرضون حياتي، ويرموا صحتي بدوائي. وإني لأهم بالدواء أن أشربه، فإذا هازئ يهزأ من عجزي، وصوت يردّد على سمعي: ترى أتكون الحياة كاملة كالموت؟ أم لا تكون إلا من الناقص المختل، يرقع ويرم رقعاً ورما؟ حتى أكاد أجن...
قالت:
يرقع ويرم أم يستكمل ويكمل؟
قال:
لا. إنما يرقع ثم يرقع...
قالت:
أوَلهذا (...) كفرت بنفسك وجحدت تطبيبك، وتناسيت أنك صاحب المارستان طبيبه... واستغثت ساحرة؟ أو داخلك الخوف؟ أم جاءت خشية الموت يا مدين؟
***

فأمسك مدين وابتسم. وقالت ليلى وقد اضطربت نفسها:
ولكنهم بعد الذي صنعت اليوم سيكفرون جميعاً بتطبيبك ومارستانك ودوائك. وسيعودون إلى السحر والساحرة، وتبقي أنت وحدك خلاء فقرا.
قال:
لا أراهم فاعلين. بل لن يفعلوا. لأنها هي التي من اليوم ستأتيهم... ويرونها... إن شاؤوا. ويبرؤون أو يموتون. هذا عندي سواء.
قالت:
تهمل مرضاك ورنجهاد تأتي المارستان؟ أفأصبت يا مدين؟
قال:
لا تظني سوءاً يا ليلى.. إنها تأتي لغير مداواة المرضى. لتساعدني على تركيب دوائي. لعلى أستريح من هذا البحث الذي أكلني وأنهك عمري. وقد رأيتها الليلة، فرأيت في تركيب الدواء وجها جديداً...
قالت:
رنجهاد أوحت إليك؟
قال:
بل علمتني:
قالت:
سحرها؟
قال:
لا. بل أن لا بد أن أطهر من الزمان دوائي.
قالت:
لقد أصبت حتى بمنطقها يا مدين
قال:
ومع ذلك فهو كما قلت: لا بد من حذف الزمان مقوما للحياة يا ليلى. فهو الذي أوجد الحركة، والذي ثورته الحركة هو النفاد يا ليلى. لأنه كل متحرك فاسد نافد. وإن الزمان لكالرحى الدائمة الرحي، لا بد من كسرها حتى تأمن الحبة ويطمئن الكيان.
قالت:
وإذا كره الزمان أن يطرد ويرد هكذا كالسائل المحروم؟ إذا انتقم الزمان يا مدين؟
قال:
لا بد من كسر الزمان، أو تشويش دواليبه، حتى يختلط ويهذي كالسكران، طوعا أو كرها.
قالت:
وتنسى يا مدين أن الزمان سنة حتم: (... ) سنة الكيان، سنة الموت طيا فطيا.
قال:
سنة الخدعة: إنه لم يكره إلى الموت إلا أنه سرقة وافتراء واحتيال.. بل انظري هذا الكوكب في أقصى الأفق الغربي يتردد فيه النور. أترينه حيا أم رمادا تتراماه أرجاء السماء ميتا؟.. نرى نوره متحركا حيا وهو لعله منذ دهور قد اندثر وزال ومات، ولم يبق إلا النور والكوكب فات؟
قالت:
وتظن أن بقاء الروح بعد الموت زمان؟
قال:
بهذا يا ليلى تحدثني نفسي منذ ليلة الحمى. فكأني بالروح وقد تخلصت من الجسد واجتازت الدنيا إلى الآخرة، فذهبت هائمة يسكنها الزمان وتحيرها الذكرى، ويزورها ما انقضى من حياتها، ويتحرك فيها ما ضاع من آراء وأحلام وأفراح إلى الأبد. فإذا همت أن تقف وتستريح لدغتها عقرب الزمان فسارت.
وكنت أظن الموت ذروة الآلام وكمال الحياة والراحة الكبرى. كالذي يكون في أقصر العذاب وكمال النعيم. لكن الزمان وراء الروح، يذكّر ويزرع الندامة والأسى والوله والحسرة. وهذه هي الخدعة يا ليلى والختل والحيلة. هذا الموت الذي يعيد الحياة في صورة شوهاء قبيحة، ويعجز أن يكون مصبها ومقرها وأقصى درجات قرارها سكونا، ويثقلها ذكريات وأسفاً على الجسد وافتقاداً لماضي الوجود ولوعة... وقد بلي الجسد وفنيت كل حياة.
سمعت ليلى وأمسكت. وسكت مدين ساعة، ثم قال:
ألا ترين هذا النور الناشئ، وهذه الألوان ترف كالطير على ذرى الأشجار؟... لكأن الدنيا جميعاً تشكو اضطراب العليل القلب. أفلا تهدأ؟ ألا تسكن؟
***

قالت ليلى:
لقد سقطت عني الحمى وانقضى الليل. أفلا نستقبل النهار؟
وقامت وهي تصلح من ثيابها، وقام مدين، وخرجا إلى الشرفة وجه الصباح...
فنفذ النور من مبذل ليلى شفوفاً، فارتدت به طيفاً من زجاج خفيفا.
الفصل الرابع

وجلست ليلى إلى لين الهواء آخر عشي رقيق الشمس والنور.
وجلس إليها مدين في اطمئنان وسكون.
قالت:
في مثل هذا العشيّ، في يوم من أيام الخريف، منذ أربع سنوات. أتذكر يا مدين؟...
ولكن مدين في محبس من المشكلات، فنفسه في الأصفاد.
قالت:
يوم بارد كثير الرياح، فيه كآبة وألم، وفيه اتساع وفراغ. كأنه الكون وقد أقفر وأوحش. وكان عشيه عشياً تحن فيه النفوس أن تطلق من عقالها فتذهب سائمة على وجهها، وتكثر فيه الأشباح على ضفاف النهر شتى... وإن النهر لبين يديّ، وإن الغيم لعلى النهر والمدينة وأهلها، يكدرها جميعاً، والأشباح في ردائه كالخيال. يأخذها نور مصباح من مصابيح المحجات، فيخرجها من الخيال لحظة فيدفعها إلى الحق دفعاً، ثم تعود إلى الخيال تذوب. وتلتقي السائمة بالسائمة تجمعهما الأخوة في الغيم، فتتحدثان أغرب الأحاديث، وتكسران الكلام، وتسخران من عجزه، وتشوشان من أوتاره، وينحل الحديث من عقاله فيتبدد في نفسه...
وتاقت نفسي في ذلك العشي أن تطلق فسامت، وتاقت نفسك فسامت مثل نفسي. وأخذنا الغيم وسار بنا، فقادني إليك وقادك إلي، حتى جمعنا فالتقينا. على ضفة النهر في منعطف خال تنوح فيه المياه، ولا يجرؤ عليه إلا من تيقظت فيه دواعي الغيب فجاء يقتل نفسه ويغسل
جئته في النهر. ووقفنا فقلت أنت: أود لو يطول الليل ولا ينكشف الغيم. وقلت أنا: أود لو يكون فيّ ليلي فلا يكون أنسه لغيري، وغيمي فيَّ فلا ينكشف عني. ثم تعارفنا، فذهبنا إلى حديقة عالية وحيدة، ذات بؤس وخلاء ووحشة، وقعت لنا ولا ندري أين تقع. وجلسنا هناك على مقعد من رخام، صلب قاس وبارد طاهر كالثلج. وجعلنا نرمي في الغيب بأحلام وآمال متفقة متناقضة، بعيدة المدى قاصية المسافة. وحدثتني بما لا يتوقعه العقل ويصغر عنده الخيال ويكبو. وقلت كلاماً قاسياً فيه كبرد الحصى صباح قر. وكانت أحلامنا من أغرب الأحلام، وكلامنا من أغرب الكلام. فكأننا نهوي إلى فوق...
وقد كان منك ما كان في هذه الأيام يا مدين، فذكرت برد ذلك العشي وغيمه، وطيف حديقة الأحلام...
قال مدين وقد استذكر:
نعم، وكنا خرجنا ذلك العشي تطلبين ما قدر لك من شأن، وأطلب ما قدر لي من شأن، في هذه الحياة...
قالت:
وقد قتلت حديقة الأحلام يا مدين.
قال:
وقتلت غيرها كثيراً.
قالت:
وقد كنت تقول كلاماً بديعا. كنت تقول إنك في حاجة إلى الزعازع المدمرات، لا تستقم لك بدونها الحياة، وإن عاديّ الأحوال وخفض العيش مذهبة لنارك، وإن لك مزاج إله، به حاجة دائمة إلى أن ينفلق شيء ويتميز، وتدوي الداويات دويا. وكنت تقول: هي سنة التقلب والتحول. وليس في الكون قوة ولا بأس، ما لم يصر عدم إلى وجود أو وجود إلى عدم. ما لم ينقلب ولم ينكسر ولم يلد ولم يتحول.
قال:
لقد كنت حينئذ يا ليلى كالفلك لا تثبت إلا على الأعماق والأغوار... وكان ينصرف فكري إلى هذه الأعماق في استطاعتها أن تدعو الفلك أو تهوي بها إلى الغور ولا تهوي، فأجد فيه كالدوار والغشية. وكنت أظن أني لا أسير والأعماق إلا سكنني الدوار، وأنستني الغشية الخوف... ثم فتحت عيني فإذا دعوة الأعماق كاذبة، وإذا سنة التحول وما حسبت لها من قوة سنة كاذبة، وإذا أنت أيضاً... وتركتني الأعماق أحقاباً وتركتني سنة التحول وتركتني أنت يا ليلى على خلوة بنفسي، وكفرت وذهب إيماني بالأعماق وقوة التحول. ولم تبق لي غشية سواك ولا نسيان يا ليلى.
قالت:
وإنك لم تطلب غير الدوار والغشية من يوم عرفتك يا مدين... وقد سألتني بالحديقة عشي الغيم، أن لا أسألك لماذا تذهب في حياتك مذهب متعمد النسيان طالبه، فأقسمت لك بذلك. ونظرت فلمحت في عينك كسواد الحداد، فأدركت ما طويت في نفسك وأمسكت عنك. ولكني طلبت السر حتى عرفت قصتك مع أسماء. ثم رأيتك تتناسى وتُنسي، فغضضت وتناسيت.
وسكتت ليلى كالواجد قديم ألم كان غلبه في النفس فأذكته الذكرى لحظة. ثم قالت:
... ثم رأيتك بعد ذلك، وقد رففت كالطائر أو كسرت من جناحيك تنقض، وأنت تقول: إن الحركة والسرعة تخفى عن العين شيئاً كثيراً، وتخلط ألوان قوس قزح فتجعلها بياضا، فلعلها تخفيني عن عيني وتخلطني بنفسي حتى تعميني. وذهبت في عدو الفرس السبوح، وتمردت على الثقل والإبطاء، وجئتني بأقصى القوة والحسن.
وسكتت ليلى كالواجد اللذة يسكن فيها.
قال:
لقد حسبت مثلك يا ليلى أنها سكرة ليس كمثلها سكرة؟ وأنها كمال النسيان والغشية. ثم نظرت فإذا الأحلام فانية والأماني، ترحيها شديداً رحى الزمان، وتذرو هباءها لياليّ وأيامي. فصغر عندي شأن " كبير الأطباء" وما ابتكرت من الدواء، وما غلبت من الأدواء. وثقل علي انكساري أمام الفناء وعجزي. وكرهت حياتي وأبغضت نفسي.
قالت:
وجئتني مساء وقد فل إيمانك، فكانت لنا ثلاث ليالى أرقاً أليماً. ثم إذا أنت قد تخلصت وقمت من الحطام، كالمبعوث تجتمع له العظام، ولما يزل يتصاعد من دمارك دخان ما حطمك من نارك... وأدركت أنك لم تنس أسماء... ثم طلع علينا الفجر بالرحيل، فسرنا حتى نزلنا هذه البلاد. وقلت: هذي بلاد الموت وهذا يوم الجهاد. وأقسمت لتصلن إلى تركيب دواء يجعل الحي كالجماد بل كالرخام لا يخشى عليه نفاد. وتحولت عليَّ وعني، وطلبتك فلم أجدك.
***

قال:
وقد طلبت نفسي فلم أجدها، يوم نزلنا هذه البلاد، فقلت وظننت: هو خلق معاد.
قالت:
ولكني لم أفتأ يا مدين أستقصيك حتى لحقتك. كالأمر المنسي تضيع ذكراه ثم يعود إليك على مهل. فإذا أنت قد جعلت كل شيء سبباً إلى الفعل. وصار عندك كل ما سواك من ناس وغير ناس كقطع اللعب أو خيالاً أو لعباً محضاً. وإذا أنت قد حصرت همك في مطاردة عدوك الموت، وجعلت كل مريض وكل مرض سبباً إلى ذلك وكل شيء سواك.
قال:
نعم يا ليلى، كل شيء واحد. ما استثنيت إلاك.
قالت:
وإن استثنيت فيَّ إلا غشية لك ونسيانا، كانا أصدق من الحركة والقوة والسرعة، تمد منهما فيَّ سبباً إلى الفعل يا مدين. وقد ضعت عني المرة الأولى، حتى رأيتك كالمقهور ضاع رشده واختلط عليه أمره، ثم أدركتك قبل أن تفوتني بلا رجعة. ثم ضعت عني ثانية من مساء الحمى. فهل أدركك ثانية كما أدركتك أولى؟
قال:
مساء الحمى علمت فيه يا ليلى أن كل ميت يخلف بين الأحياء ميتا... وعلمت أن الأموات تصارع الزمان صراعا. وقلت: الفعل من الحركة، وليس مثلها عذاب، وليس كالزمان محرك. ثم قلت: أليس أن في الوجود اعتدالا؟ أليس الحي والكون كله توقاً إلى اعتدال السكون واجب الوجود؟ فإن بلغه الحي كان (...) الشفاء والأبد الخلود...
قالت وعيناها هائمتان في أبعد من الغيب:
كذا. إنه يا مدين إذا اتسع الفكر فغشى على الحياة كلها، فقد أمات وسكن إلى الجمود ومات. وها أنت في طريق النهاية. وإن أخشى ما أخشى عليك يا مدين أن يكون السكون هو العدم.
قال:
وإن كان، فهل ترين للعدم بداية أو طولاً أو نهاية؟ أليس هو ضد الزمان؟ أليس هو أبد الأبد؟ القرار الذي لا يتغير ولا يتحرك، ولا يحدث ولا يزول. الكل في حضرة الكل، ليس لحقيقته اسم ولا لأبعاده حد...
ووجم مدين لحظة ثم قال في همس بعيد:
ليقعن لي سر الجمود البقاء والأبد القرار، ولأفنين الموت أو أفنين الحياة. ويكون آخر عزمي وجهدي...
***

وقام مدين كمن تيقظ فيه داع جبار لا ترد له دعوة. وتوتر واشتد. فأدركت ليلى أنه تاق إلى الغاب. فقالت:
إني أجد الغاب يدعوك. فاذهب يا مدين ودعني. فهو عشي تحن فيه النفوس أن تطلق من عقالها، فتذهب سائمة على وجهها ناشدة قرارها المفقود...
وقبل أن يسمعها ارتمى إلى الغاب وطلق شيء في نفسه... وسمعت ليلى من الغاب رقيق شوق ودعوات عظاما، وأحست منها كشديد العناق. وذهب مدين كالمسرع إلى الوصال. ودخل تحت شعور الأشجار، كالداخل على عرائس أبكار.
ولم يصبر ليلى فقامت ودخلت إثره عالم الغاب.
وأوغلا معا في الجنون الفرار.
الفصل الخامس

وسار الغاب يقوده طريق لغز بين ألفاف الشجر ولكن الطريق. تعلم ما غايتها والنهاية، ومدين هائم على غير هدى. انصرف من بيته فعدا. ثم تمهل فمشى. وخرج من باطن دويه فأصغى، فإذا الغاب ساكن ثقيل أثقل من رضوى. وذعر مدين ثم تجرأ فتمادى، وتبعه الصمت والسكون كأن حوله منهما هالة كبرى. وارتمى السمع يطلب في الغاب حركة أو حياة، فارتد حسيراً خاسئاً. وتضاحك الخوف في قلب مدين هازئا. وقال مدين: أمات الوحوش ومات الشجر ومات الطير ومات الماء؟ واحتاج إلى الأنس، فتكلم وقال قولاً فاحشاً، فرده للصمت على وجهه كالصفعة الصافقة. ووقع كلامه في سمعه فأوقع فيه فزعاً. وتصور له ضعف بدنه، وما أفنت الحمى من قوته، فكاد يسقط لوجهه. ثم اشتد الضعف واشتد الذعر، فعادت إلى مدين القوى، وانطلق يعدو عدواً.
وأصغى فإذا لخطاه جلاجل ذات جلجلة، سمعها كما يسمع الصوت البعيد تكذبه الأذن أولا. ثم دنت منه وبانت أجراسها، فطغا على خوفه الأنس بها، ونشأت في نفسه محبة لها وقال: إني لها صديق وهي لي أصدقاء. واتسع ما ضاق من الغاب، وتراجعت الأشجار وانحلت ألفافها. وتخيلت لمدين محجة واسعة بينة مستوية كبرى. كالخط الراقد يريح من عناء الطريق القائم صعدا. وهمست هاتفة ليلة الحمى. فعرف مدين صوت أسماء، وقال: هي ظلي أو أنا ظلها.
***

وهتفت أسماء:
هذه الطريق هي الطريق العظمى. تقتضي سرعة الطير أو خطى العماليق. وقد حللت بها يا مدين وأخذتك روحها. فحسبت أنك تسير وأنك تتقدم، كجميع الذين يصيبون سبيلاً، تنشأ فيهم حركة المسافر الراحل وشوق الرحيل والتيه، وإن كانوا ممن لم يبرح بيته قط. والذي بك يا مدين أن الطرق حديدة النفس طيارة زفافة. بما فيها من توق وإلى الإيغال والإبعاد، تواقة إلى الإبعاد والتيه. ولكنك لا تعرف ما الغاية ولا الوجه. وتريد مع ذلك أن تنتهي وتستقر. لا كأبناء السبيل يعشقون السبيل ويبرمون بالمنزل، ولا يسألون المحجة الواضحة، ولا الثنية بين الجبال سارحة، ولا العقبة النازحة، نهاية ولا غاية. أولئك أصحاب الطريق تحبهم ويحبونها. وأما أنت فمن أصحاب المنازل يا مدين. أطردت من منزلك. وسارت بك الطريق، فسرت وعيناك إلى الوراء، نازعتان إلى منزل فات. وليس من أبناء السبيل من كان منه أثناء السير التفات. فاثن سبيلك إن استطعت... ولكن الطرق لا تثنى كما تثنى الحبال. وسكتت الهاتفة وردد سمع مدين: الطرق لا تثنى، والكائن زمان فوت لا يقف ولا يعود...
وانصرفت الهاتفة وصاح مدين وانصرف في إثرها، وأنفاس الغاب تطويها: لا تدعيني يا أسماء. وحام بصره ومشيته حيرة. وهمست رنجهاد:
هذه ديناي، فادخلها يا مدين آمنا.
***

والتفت مبغوتاً، فإذا رنجهاد بين يديه، كأنما تولدت من الأرض أو حطها الخيال إليه. وسقط عن مدين العناء، كالطائر ينحط من السماء. ونظر فإذا فضاء في الغاب بين الأشجار كالفناء. والأشجار حوله دائرة مؤتلفة، كسواري المسجد خاشعة. وضاء وجه رنجهاد باسماً. وأرسلت يدها بأنفاح كغريب المسك فائحة. واختلط الحق بالباطل، وتحركت الأشجار والأرض مائدة. وتميزت نفس مدين أشتاتاً، وصاح متسعا:
الآن ماجت الحياة، فانساب في جم من الثعابين، وغنّى الطير، وطابت الثمار، ونتأت الجبال، وسالت الأنهار. أفهي الكثرة والاتحاد بالكون؟
وقالت رنجهاد:
إنما هي مقدمة التخلص من الحق والألم والفرح، مقدمة الجمود. ولن تتحد بالكون أو تتبدد فيه حتى يظهر معدنك وتتخلص من أعلاقك.
وصرف مدين إلى رنجهاد وجهاً حائلاً وعيناً بعيدة الغور. فرقت له وقالت:
أهو الدوار قد غشيك يا مدين؟
ثم نظرت فإذا هو ثابت الجسد ليس فيه تداع، فقالت:
إن كنت ثابت الباطن أيضاً فقد فزت. وكل من أشرف على عميق الهوايا، فنظر إلى الأعماق ورأى الدوار بعينه ومع ذلك لم يخش هاوية ولا دواراً فقد غلب الهوايا وأمن الدوار. إنك أهل يا مدين أن يؤذن لك فتدخل عالم النسيان والخلود.
وأخذته من يده وقالت:
وسإبلوك يا مدين، وسترى عجبا كثيرا فلا تسأل في شيء. وأعلم أن الحق يأبي أن يقع للنفس من سبيل المعاني ومنطق البشر. وأنه ليس من حق إلا ما وقع لك فأعجز اللفظ وكذب العقل وخلا عن معنى.
وسارت به في الغاب سيرا حثيثا. والغاب حولهما في سكون الأزل. وكأنما انتفى الصوت، فالحركة خرساء صماء، وخطاهما لا يسمعان لها وقعا.
ومضت ساعة ومدين يسرع ورنجهاد تحثّ السير حثا.
وأعيى مدين فوقف، فقالت:
لقد ذرعت السير بذرع الزمان وقسته وإنما الإعياء ذكرى.
قال:
لقد طال عليّ وبلغت جهدي.
قالت:
كذا تطول على الأحياء حياتهم، فينقضي الجهد ويكون الإعياء.. وإن نهاية الوجود الأبد، وإنما البقاء الأزل.
قال:
أو لم تعيي؟
قالت:
إنه من كان فيه السكون لا يعرف الإعياء ثم قالت:
أتريد يا مدين مستراحا أم مستقرا؟
قال:
إذا لم تكن النهاية، فمستراحا لساعة
ثم دخلا مشتبكا من الغاب كأنه قتال شديد، وقالت: سترى الكهف. وأفرجت الأشجار كصفوف المقاتلين تفر. وتقدم جبل من صخر صلصال فيه فوهة من ظلام لا يقصيها بصر. وقالت رنجهاد: هذا كهف النائمين.
وأومأت فوقف الجبل وسكن الظلام وكان قبل دخانا يدور كالزوبع. ثم جلست رنجهاد وقالت:
ادخل يا مدين فاسترح. من عنائك
وذهب مدين كالمدفوع لا يملك للدفع رداً. وانغلق عليه الظلام فتلقمه الكهف. كان منه كالنوم وليس نوماً، وإنما اغتمضت عيناه وفتر الجسم لحظة. وانفصل عن رنجهاد صوتها وتبع مدين إلى الكهف. وجاء مدين حلم كلا حلم وإنما تقول رنجهاد ويتلقى عنها همسا.
قالت:
لقد نزلت كهف الذين ذهبت أرواحهم ولم تمت أجسادهم. كهفاً اجتمعت فيه ظلال الموتى مغلولة إلى الموتى. كنفسك من يوم ماتت أسماء يا مدين.
قال:
أوتبعت روحي روح أسماء ظلاً؟
قالت:
نعم، من ساعة ماتت.
قال:
ولم ماتت أسماء؟
قالت:
لتخلفك بين الأحياء ميتاً وتتبعها روحك ظلاً، ويتم التسلسل وتحق كلمة الموت على الكائنات. ويعلم الناس أنها مهد ومهدم، وأنه لا تنهار لبنة إلا هارت وتبعتها أخرى. وقد تبعت روح أسماء فنمت عن الدنيا. واستبد عليك كالذات على الظل ظلما فلا أنت من أهل الموت، وقد نلت ما نالوا من فناء، ولا أنت من أهل الحياة، لك مثل نصيبهم غفلة.
وسكتت رنجهاد، فدار الظلام كالرحى على قطبه وهمهمت أرواحه همساً: لقد نمت فينا يا مدين بهذا الكهف عن الدنيا. واستدارت الأرواح الظلال وهبت. فالتوت ريحا خجوجاً وهفت، واستيقظ مدين هزا وذعرا
فقالت رنجهاد:
ألك يا مدين في ساعة أخرى؟
فاندفع فارا من الكهف وقال:
يا رنجهاد غوثك...
فأخذته من يده وقالت:
إذن نعاود السير.
قال:
نعم، إلى النبات وسلهوى والعين. إلى الخلاص، إلى النهاية.
الفصل السادس

وذهبت رنجهاد بمدين متوغلة في الغاب، فقطعت به مسافات كأنها العصور طولاً. وخيل لمدين أن له جناحاً وأنه يطير في الزمان. أو أنه ساكن مستقر والزمان من تحته يمر. وذكر نفسه فرآها كما يرى الشبح في أقصى أفق الفكر، فكأنه عمر قروناً، أو مات وبعث بعد عصور، رميما
وقالت رنجهاد:
لقد قربنا يا مدين من الموت.
فقال مدين:
أطال الزمان أم طالت نفسي؟
قالت:
هو الزمان. لم يطل، وإنما كثر عليك، وأزف فيك واحتدّ بك سورا.
ودخلا في كون غريب روحه السرعة. ينشأ فيه النبات فيتصاعد إلى السماء، ثم يهيف فيذبل وييبس فيتساقط، في طرفة عين. وتجري الأنهار ثم تغور فتمحى، وتعزف الرياح العاصفات ثم تفنى وتسكن، وتخلق الوحوش والطيور فتمر سراعا وتبلى. في لحظة برق.
ووجد مدين في نفسه التواء كالتواء الإعصار الشديدة وإعجابا، وأدرك أنها حركة الزمان في نفسه دواراً.
وقالت رنجهاد:
هذا عالم الزمان المطلق: يجتمع فيه لكل مخلوق المولد والحياة والموت في لحظة، فلا يبقى. عجلته في الدنيا بطء، وهي هنا سرعة، هذا عالم الموت والأبد.
وطغى الدوران في نفس مدين وكادت تصيبه غشية
فقال:
يا رنجهاد بلغت جهدي.
قالت:
تريد مستراحا أم مستقرا؟
قال:
إنه لا مستقر اليوم قبل النهاية.
قالت:
إذن، مستراحا لساعة.
***

وكان للأرض يوم..
انتفخت فتنفست، فعصف العفن عصفا، وصاحت طربا ورقصت جنونا، وكان لها على سلهوى فإذا صورة النور قد ثقلت وتدلت، بما فيها من طين، كالوطب. وهبط آدم الأرض. وذهب عن الإنسان الجمال، وجاءه القبح مع الطين والتخمر والموت. وأهوى سلهوى في القنوط والحسرة. ثم قال سلهوى: ليغلبن الموت بالحب والحمل والوضع. وصحبت آدم حواء.
ثم مات من بنى آدم أول ميت. فصلت الأرض على قابيل واتخذت وليمة. ودعت الأكوان إلى ليلة من لياليها. وقامت فقالت: انظروا الدود يأكل العفن. وتنشقوا عطر النتن. وانشروا في الأفلاك نبأ غلبتي على النور، لا يطهر مني مدى الدهور. وقولوا: العالم من حيث هو كائن فاسد، ومن حيث هو فاسد كائن، موت ولا موت، خلود ولا خلود. ونور يشع، إلى الطين مردود....
وأطلق الموت الصورة من ثقل الجسد. فهمت الروح النور أن ترتفع فأهوت. وتاقت إلى السماء فإذا هي على الأرض واقعة واقعة. وبقيت فيها على وجهها حيرى، وصحبها الشوق والذكرى. ووجدت حسرة لوعة على ما ضاع من جسد، وحاجة إلى مادة سند. وكان أول العذاب الأبد.
وكذلك زنت المادة بالروح فدنستها، وألفت الصورة دنس المادة فأقعدتها. وبقيت بعد الموت بين الأكوان تعوي...
وهذا هو مدين عالم الموتى...
قال مدين:
جاءتنى أسماء ليلة فقالت: أين يا مدين جسدي معدن روحي، أين أنا المفقود حساً ومعنى؟ لقد بكيت وكثر بكائي، وأعولت حتى مللت عويلي، ومزقت روحي أشلاء. وحملت على الأجساد أريد دخولها فلم أجد فيها شقاً...
واسترسلت رنجهاد تقول:
... هذا عالم الموتى، الذين ماتوا ولم يدركوا الفناء. جاؤوا فلم يبلغوا العين. يذكرون إلى الأبد الأجساد ويسترجعون ما باد من حياة وما مضى من ملأ، ويشكون الفراغ. ويجدون صداعاً في رؤوسهم وقد ضاعت، وأدواء في صدورهم وقد خوت. ويبكون ويعولون كما فعلت أسماء. وقد أوكلت الأرض بهم الزمان يذكرهم تذكيرا. ويشتد فيهم ويعصف، ويجتذب الماضي وما كان فيه، والمستقبل الأبد وإمكانياته، فيعجنها جميعا ويحملها الروح. وقد تعيي بعض الأرواح فتطلب مثلك مستراحا، وتميل إلى الدعة والنوم. فإذا هو ينخسها كالمهماز نخسا، بل انظر يا مدين الزمان ما يصنع..
ونظر مدين فإذا هياكل من عظام رميم تقوم فتمشي ثم تكتسي لحما وألوانا، وصحة وجمالا. ثم تشيخ وتساقط فيأكلها الدود. فتذهب رمادا وتعود رفاتا في طرفة عين..
قالت رنجهاد:
وذاك صنيع الزمان بما يعيي من الموتى: يعيد لها المادة والجسد لحظة. فيتحرك فيها الشوق وتؤلمها الذكرى. كذا، إذا حلمت، تحلم الموتى.
وأطرق مدين ساعة كالمصيخ إلى مصيره. ثم لوى فقال:
أين سلهوى والنبات؟ أين يا رنجهاد النهاية؟
قالت:
لدى ابتداء الأبد، لدى العين، لدى السكون والنسيان والصمت، وها نحن ذا على الباب...
واندفع متقدماً فقالت:
إنه باب لا يدخله اثنان. ادخله وحدك.
ثم ضحكت وتبددت فتلاشت.
***

ورفع مدين رأسه فإذا هو في ليل من الغاب أبكم. وغصت عينه بالعبرة. وقام يجر في مشيته وقد كلت الرجل وذلت. فسار حتى جاء فجلس بفناء بيته. وقال: لأخرجن من محبسي وليلي.
ومضت واليأس. كتردد الفلك على الموج. أو الشك في النفس. فلما أوشك الفجر، رجعت ليلى ثقيلة كالبحر الساجي، وجلست إليه فقالت:
أنسيت النوم كما نسيته؟
قال:
ماذا صنعت؟
قالت:
توقعت وترقبت. وذهبت فملأت أرجاء الغاب انتظارا. وكشط القتاد والعضاة والطلح انتظاري، كشطها لصوف الأغنام بين الأشواك ترعى.
ثم قالت:
وأنت ماذا صنعت يا مدين؟
فلم يجبها مجيب.
الفصل السابع

وانقطع مدين إلى المارستان أياماً. تأتيه رنجهاد كل يوم ولا يعود إلى بيته. وتذهب إليه هند بطعامه كل يوم. وتعود فتقول: إنه قد احتبس في بيت الدواء. فهو لا يخرج منه حتى يركب عقاره. وعلمت ليلى أنه سبقها وبعُد ما بينها وبينه، ونبا كيانه عنها. وذهبت نفسها عليه.
***

ثم جاءها ليلة وقد كادت تقنط فتخرج فتسيم. وقال:
الليلة النهاية يا ليلى.
وأقبل عليها إقبال المتشوق البعيد الشوق. فلقيته بوجه ملأته الآلام امتلاء الشراع ريحاً، وقالت:
أنهايتنا معاً أم نهايتك وابتدائي؟
قال:
نهاية الباطل وابتداء الحق.
وسكتت ليلى (...) كالبيت المتهدم تساقط جدرانه في جوفه أنقاضاً. ثم قامت وقد ثقلت عليها الليلة كما يثقل الإثم على الآثم النادم. فقالت:
ألا نخرج إلى فناء البيت؟
وخرجا فجلسا. وكانت الليلة قمراء وضّاحة الظلمة بيضاء. كأنها في رغوة حليب، أو زبد سحاب..
وقالت ليلى:
إنه ليس من باطل يا مدين إلا ما فسد من نفسك، ولا من حق إلا ما صدق منك. وقد كدت أن تبطل كل شيء...
قال:
لأني رأيت (...) الفكر والعلم كالسدود تقام وتجعل لها الحكمة والعقل أساساً، فتنتصب واقية الوادي من جرف السيل، والحياة من الجنون...
قالت:
وهو عندك باطل والوقوف عند السد جبن؟
قال:
نعم يا ليلى. ولقد خلق الإنسان هلوعاً، يجبن ولا يقدم، فيفوته الغيب فوتاً. ويخشى أن يفسد عليه المعقول، فيتخذ العقل ترساً يدفع به الخيال كمسموم النبل دفعاً. ولو أقدم فطلق من سجون المعقول لوقع له الحق وسقط الباطل وجاء الشفاء وكانت البراءة.
قالت:
بل يكون التيه يا مدين، وإن غير المعقول لغول داهية جموح لا يمارَس شديد.. يذهب بك ولا تثنيه ولا تقدر عليه ولا ينحصر لك ولا يُحَدّ. وما لا ينحصر لا يُدرَك. وإنما أنت تتيه فيه وتتبدد. لذا حبستنا الأقدار يا مدين على العقل وشدتنا إليه، حتى لا نضل السبيل.
قال:
ما ربطنا ولا حبسنا يا ليلى. وما هو إلا أننا نسينا سبيل الإطلاق الجنون، وخشينا الدوار يورثه تجاوز العقل
وطبع البشر. فأغلقنا آفاقنا، وقصرنا مدانا، وأدنينا كالأعشى أقاصينا. وإنما العقل عقال.
قالت:
هيهات أن يطلقني من أصفاده يا مدين.
قال:
أما أنا فقد طلقت يا ليلى، واهتديت إلى سبيل المطلق المحض والحياة الأبد. وباح لي غاب رنجهاد بسرّه.
قالت:
وكل كائن عندك له سر وخافية. كأنك صاحب الشُّرَط يرى الرجل فيظن سوءا. أليس في الكون ظاهرة صادقة؟ ألا يكون صريحا؟
قال:
لا يا ليلى. في الكون كله وهم وغش وكذب وخدعة.
قالت:
وأين ترى عينك غشا؟ أين ترى كذبا وخدعة؟
قال:
في الريحانة تذبل، وفي الشمس تغرب، والحب يُسلى.. في الموت.
***

وسكتت ليلى هاوية. وأمسك مدين ساعة، ثم قال:
هو الدلس يا ليلى. وليس أشد على المرء من أن يتصور المستقبل لعينه ذكرى، وكأنما قد مضى ولم ينس أشد من الزمن يسخر منك، وأن تموت وتبقي حيا، وأن تهمس الساعات إليك في كل لحظة: أنا التضليل والخدعة.. ولقد دلست عليَّ الدنيا من سن العشرين يا ليلى.
وقام مدين ثم قال:
ولكنها لن تدلس اليوم ولن تستطيع سبيلاً
وصاحت ليلى وكأنما انقض عليها شك أو لدغتها حية:
ما أنت صانع؟
قال:
إني لشارب عقّارى، فخارج من دار إلى دار.
ودخل الغرفة. فما قامت ليلى وأدركته حتى صب العقّار وشرب. فتعلقت به وفاضت بكاء وقالت:
أرضيت بالخسران؟ أتريد أن تقتل نفسك؟
فاحتملها إلى الفناء وقال:
إنما أنا قاتل ظلاً فزمانا وموتا، فبالغ سرمدا وخلودا
قالت:
ماذا شربت؟ بأيّ سمّ قتلت نفسك؟
قال:
لا سمّ اليوم ولا قتل نفس. هو الدواء دوائي بيدي اليوم ركّبته.
***
وأحسّته قد فاتها، فعلا صوتها بكاء، وتحاملت عليه تغشاه، وطوّقته يداها وقالت:
حدثني يا مدين آخر أحاديثك.
قال:
هو حديث المستحيل يرغم على الإمكان يا ليلى. احتجت أول أمري أن أتصور ما يستحيل تصوره وأتعقل ما لا يعقل، فلقيت عناء طويلا. ثم ذكرت حياتي وبطلانها، ورأيت ما رأيت في الغاب من عذاب الظلال وخستها، وآلام الأموات لم يبلغوا الفناء وذلوا للزمان وطغت بهم الذكرى. وأدركت ما أدركت من مصيري لو لم أمض في سبيلي حتى إبلغ العين. فخف عنائي وانكشف الإشكال وتيسر الأعسر. ثم نظرت فإذا ما كان يفزع منه عقلي قد بان كالفيض وتصور بديها، فانفلق في نفسي منه ريح جنون زعزعا. ثم علوت ذلك فجرت في قلبي الطمأنينة ماء هادئا. ووقعت لي سبيل الحركة الحرة المطلقة مطهرة من الزمان متبددة في ذاتها جامدة. وبأن لي سر تركيب الدواء فركبته عقارا يحنط الجسد الحي فيخلده كالمومياء..
وقام مدين كالآلة تحرك فيها دولاب. فإذا نور القمر جميعا على وجهه. كالجمال يشتد على وجه الحسناء تموت. وقال:
هذا الأبد يا ليلى. هذا النسيان، هذا الخلود.
(... )
إني أجدني وضّاحا، وأجد بي نورا. وقد أمطرتني السماء ماء صفاء. وطهرتني فأنا نظيف كنصع نظيف. وقد عادت لي عظمتى وطهارتي وجمالي.
ومشى مدين خطوات يريد الخروج، فاعتلقت به ليلى وهزّته هزا، وصاحت:
يا مدين، أفق من غشيتك يا مدين.
وأحسّ بليلى فقال:
دعيني. من أنت؟ دعيني.
وتخلص منها فتقدم في سبيله لا يراها ولا توقفه، وقال:
إذا جرؤت فأطللت على الهاوية، فالهاوية لا تجرؤ أن تطل عليك.
***

ثم وصل إلى باب الدار، فوقف مصيخا كمن أصاب صوتا. وقال: اسمعي.. إنها أجراس الجلاجل ذات الجلجلة، ألا تتسمّعينها مبتعدة هاربة؟ إنها الأيام وأسماء مولية ذاهبة، تصوّت الجلاجل في أعناقها، والراعي يسوق ويسوط قطعانها... إني الآن الحق في حقها...
وسقطت عنه الذكرى، وفسدت عليه الحافظة. ونسي أنه هو وأن امرأته ليلى. ومات عنه كل ما مضى من سابق عمره. وأقفر قلبه وخلا، فظن أنها الطمأنينة والسعادة والأبد. وامتدت يده بلا حسّ إلى يد ليلى، فجعلتها على صدره وصاح:
انظروا. فهذا قلبي سكت، وقد غلب السكون الزمان. أنا لا أمرّ ولا أحُول: أنا الوجود، أنا الخلود، لم أستحل منذ القدم... لكن من أنا؟ أولد كل ساعة خلقاً جديداً. انظروا آفاقي تناءى، فما أوسع أبعادي! ها سكن عني الحس وآن الحلول. وعظمت وشربت السماء وحلّت فيَّ الأكوان جميعاً...
وتدفقت الأكوان فانصبت فيه، وتبدد هو فيها. وخرج من البيت مائجاً كالدخان، فقام في وجهه الغاب والأشجار وزبد القمر يعلوها: ونظرت ليلى فإذا رنجهاد على شفا الغاب واقفة تنظر، كأنها علمت بما كان فجاءت وجرت إليها ليلى وصاحت:
يا رنجهاد ارحميه وأغيثيه. إنه ليكتفي بحياة كحياة آبائه.
عين. كالقسوة توبس النفس. وذعرت ليلى فارتدت فأسرعت إلى مدين، وخطا خطوات ثم وقف وقال:
ما هذه الريح الكريهة تخنقني؟ أتعفن الهواء أم تعفنت أنفاسي؟
واشتد به النتن، واضطربت حركاته، فاصطك وصاح:
ألا خلاص من هذا العفن الباطن، وهذا الدود يتحرك فيَّ كالجنين في الحامل؟ ما هذا الوهن يهوى بي، وهذه الروح تداعى وتنهار...
وسقط على الأرض، فصاحت ليلى بهند ألا انظري هل بقي في الزجاجة من عقاره.
ثم وقعت إلى مدين مندكة القلب ولهى. وكأنما استيقظ مدين لطرفة عين وذكرت عيناه ليلى، فهمس منهوك النفس:
هي النهاية يا ليلى. لقد خاننى الجسد، وخانتنى الروح. فلا هو استطاع الخلود، ولا هي...
وخرجت هند وأقبلت تجري كالذاهبة العقل وما تدري، وقالت: لم يبق في الزجاجة شيء.
ورفعت ليلى صوتها بالعويل، ودفع مدين آخر أنفاسه فقال:
لم خانني الجسد وخانتني الروح يا ليلى، ما قعد بي وبدوائي يا ليلى؟ وشخصت عينه وغص، فسكن واسترخى.
***

وهتفت رنجهاد قاسية ساخرة: ما الذي قعد بك يا مدين !...
ثم لوت فاسودت، وظهر لها جناحان، فنهضت وصفقت، ودخلت عالمها الظلمة، وقالت:
ساعة من النسيان بحياة كحياة آبائه، وبليلى أخلفها بعده بين الأحياء ميتة ... إلا أن الوجود اللعنة الأبد. لن يولد النسيان. لن يولد الفناء. لن يغلب الزمان. لن تدرك السماء أنا البهتان...
وطارت روح مدين فلحقت عالم الأموات، وروح ليلى فلحقت كهف الظلال.
***
المسافر

دفعته ضرورة المساء آخر عتمة يوم من أيام الصيف، وقد جاءت ليلة لألاء من زجاج، فإذا هو يجيء الجبل ظاهر المدينة، ويدخل الحديقة ويقوم شوشت دواليب، وانقضى توق، وانقصمت أوتار. ولقد مات ميت..
ويذكر عهدا له طويلا قضاه في البحث والطلب والجوس. إذ قالوا له: سل الشرق سر الطمأنينة والحلم. وإذ قام فسار في طرق الشرق وثناياه فجاب من بلاده اليابس والرطب، وذا الزرع وغير ذي الزرع، والفضاء والصحراء، والسهل والحزن والنخل والوادي. ودخل القصور الجنان وفاخر الأمصار ووضاح المدن. فما كان فضاء من قحط ممدود، ولا مسجد وصلاة، ولا إبل وسكون منيخ، ولا مقبرة وبياض قبور، إلا سألها سر الطمأنينة والحلم. وأطال السؤال وأكثر مد اليد وألج وأل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://abnajidow.7olm.org
 
مولد النسيان
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدي ابناء جدو  :: الفئة الأولى :: مـــــجلة القبيلة-
انتقل الى: